أريج المنهل

أبحاث – دراسات – مقالات

أخبار

الإكثار من المزاح والأضاحيك عند مواطن الوعظ والنصيحة

رسائل [تناثر الرماد على أثواب الجياد]

الرسالة (2)

الإكثار من المزاح والأضاحيك عند مواطن الوعظ والنصيحة

بحيث يصير ذلك علامة وسمة في الواعظ أو الداعية

الحمد لله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على نبيه الكريم.

وبعد:

فإنما شُرع المزاح للملاطَفة والمؤانسة، وتطييب الخواطر، وإدخال السرور، وفيه من التبسط لطرد السأم والملَل، وتطييب المجالس بالخفيف منه – الخير الكثير إذا كان بقدر موزون.

وقد اعتبر كثير من الفقهاء المزاحَ من المروءة وحسن الصحبة.

 

وكان هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما ذكر ذلك البخاريُّ في باب الانبساط إلى الناس؛ مستدلًّا بحديث: ((يا أبا عُمير، ما فعل النُّغَير؟))، وقوله لأنس رضي الله عنه: ((يا ذا الأُذنين))؛ يمازِحه صلى الله عليه وسلم؛ [رواه الترمذي].

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فأمَّا من استعان بالمباح الجميلِ على الحقِّ فهذا من الأعمال الصالحة”.

 

ومع ذلك؛ فإنَّ الله تعالى جعل لكل شيء قدرًا؛ فالمزاح في الكلام كالملح في الطَّعام؛ إن زاد فيه فسد، وإن قلَّ لم يُستسغ.

وكثرة وقوع الأضاحيك بين الناس، جعلَتها ظاهرة مذمومة، تشمئزُّ منها الفِطَر السويَّة، وترى بعضهم يغلب على طَبعه كثرة المزاح والإسفاف وتماديه فيه، فيخطئ في تصوُّره أنَّ كثرة المزاح وذِكر غرائب الحمقى وأخبار المغفَّلين – بحكاية أو صورة أو كاريكاتير أو غير ذلك – إنما هو تَعبير عن طراوة النَّفس وطيب القلب، ومدخل إلى القلوب، فتَقبل الموعظةَ ويسهل عليها تلقِّيها.

يقول أبو الحسن الماوردي: اعلم أنَّ للمزاح إزاحة عن الحقوق، ومخرجًا إلى القطيعة والعقوق، يصمُّ المازح ويؤذي الممازح؛ فوصمة المازِح أن يذهب عنه الهيبة والبهاء، ويجري عليه الغوغاء والسُّفهاء، وأمَّا أذيَّة الممازَح فلأنَّه معقوق بقول كريه، وفعل ممضٍّ، إن أمسَك عنه أحزن قلبه، وإن قابَل عليه جانَب أدَبَه، فحق على العاقل أن يتَّقيه، وينزِّه نفسه عن وصمة مساوئه[1].

يقول الشاعر:

وإيَّاك مِن فرطِ المزاح فإنَّه ♦♦♦ جديرٌ بتَسفيه الحليم المسدَّدِ

وقال الإمام النووي رحمه الله: “المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراطٌ ويداوم عليه؛ فإنه يورث الضَّحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذِكر الله تعالى، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورِث الأحقاد، ويسقِط المهابةَ والوقار، فأمَّا مَن سلِم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله”[2].

والسؤال المطروح الآن: هل كثرة التبسُّط بالمزاح، وإلقاءُ الأضاحيك، من الدعوةِ إلى الله في شيء؟!

الدعوة إلى الله تعالى من أجلِّ الأقوال وأفضل الأعمال؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، الاستفهام إنكاري، جوابه: لا أحد أحسَن ممَّن يدعو إلى الله تعالى؛ بل هي مَهمَّة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ومهمَّة أتباع الرسل.

غير أنَّ الدعوة المباركة لا تَستقيم لهؤلاء الذين ضيَّعوا حظَّهم من المروءة، فغلب عليهم المزاح في مجالسهم ومواعظهم، فأصبح ديدنًا لهم.

وقد ترى منهم ذكر أسماء المغنِّيات أو الفنانين، وربَّما يذكر بعضهم شيئًا من أغانيهن وما استجدَّ منها، ولسان حاله يدلُّ على متابعة كل جديد، وربَّما زعم أنَّ هذا من “فقه الواقع“.

وتجد بعضهم قد التقَط النكات والمقاطِع من بطون الأفلام والمسلسلات، وربَّما أرفق مع ذلك صورة أو مقطعَ فيديو، وربَّما زاد الطين بِلَّة، فأتى بصور لنساء متبرِّجات؛ وما ذلك إلا ليدلِّل على رأي أو مشاركة له في صفحات التواصل الاجتماعي، وهو بذلك يظن في نفسه أنَّه فارس في الميدان، قد قدَّم معروفًا أو ردَّ منكرًا، وما المسكين إلَّا متخبط تائه.

وهذا كله عكس الجد، الذي هو الحالة المفترضة، والسِّمة الغالبة في الدَّاعية إلى الله تعالى الواعظ في دينه.

أخرج أحمد وغيره عن أسامة بن شريك قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه حوله، وعليهم السَّكينة، كأنما على رؤوسهم الطَّير، فسلَّمتُ، ثم قعدتُ…”؛ الحديث.

ويقول الإمام ابن كثير عند تفسيره لسورة الجاثية: “قال ابن أبي حاتم: قَدِم سُفيانُ الثوريُّ المدينةَ فسَمعَ المعافري يتكلَّمُ ببعضِ ما يُضحكُ به الناسَ، فقال له:

يا شيخ، أما علمتَ أنَّ لله تعالى يومًا يَخسر فيه المُبطلون؟!

قال: فما زالَت تُعرفُ – أي أثر هذه الموعظة – في المعافري حتى لحق بالله تعالى!”[3].

وسئل معالي الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى:

اتَّخذ بعض الدعاة الضحك طريقةً ووسيلة لدعوة الناس للهداية والتوبة إلى الله من خلال المحاضرات والكلمات التي يلقونها، ما حكم هذا في الدَّعوة إلى الله؟

فأجاب حفظه الله: ما صار المَزْح والضحك في يوم من الأيام من الدعوة إلى الله؛ الدعوة إلى الله تكون بالكتاب والسنَّة، وبالوعظ والتذكير، أمَّا المزح والضحك؛ فهذا يُميتُ القلوب، ويصير النَّاس يضحكون ويمزحون ويأتون إلى هذا المكان لا من أجل الدعوة؛ بل يأتون من أجل الترويح! وهذا لا يصلح أبدًا، وليست هذه بطريقة دعوة، وإنما طريقة ترويح.

وسُئل أيضًا: هل القيام بدَعوة الناس إلى دين الله عن طريق تَقليد أصوات النِّساء وحفظ أغاني المطربين، والضحك والسخرية من لغات بعض الشعوب، وتسجيل ذلك وجعله في أشرطة، ونشره بين الناس؛ هل هذه دَعوة على منهج الكتاب والسنَّة؟ أرجو التوضيح في ذلك؛ لأن هذا الأمر بدأ يَجتمع في بعض الأوساط!

فأجاب: هذه مهزلة، ولا تنسب إلى الدَّعوة إلى الله عزَّ وجل، الدعوة إلى الله جدٌّ وصدق، من الكتاب والسنَّة، والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولا يدخل فيها الهزليات والضحك وتقليد أصوات النِّساء والتمثيليات؛ كل هذا من الخزعبِلات، ما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا دعا الصَّحابةُ ولا مَن بعدهم بهذه الطرق المحدَثة التي يسمونها وسائل دعوة”؛ اهـ.

وقد يحتج بعض هؤلاء لطريقتهم هذه بأنَّ الكثير من الشباب قد تابوا ورجعوا عن كثيرٍ من المحرَّمات والموبقات بسبب هذا الأسلوب.

وهذه الحجَّة باطلة من وجوه:

أولًا: أن الوسائل المشروعة فيها الكفاية؛ وهي أفضل وأولى من وسائل مُحدثة تفضي إلى المحظور؛ فالإكثار من تناول المباح ذريعة إلى الوقوع فيما كَرهه الشَّرع، فكيف إذا كانت هذه الوسائل محظورة أصلًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تكثِر الضَّحك؛ فإنَّ كثرة الضَّحك تميت القلب))[4].

ثانيًا: ثبت بالاستِقراء التوبة والاستقامة من الخلق بالوسائل الشرعيَّة أضعاف مَن تاب بتلك الوسائل المحدثة.

ثالثًا: الغالب في التأثُّر بهذه الوسائل الهشاشة والسطحية؛ بل سرعان ما تكون الانتكاسة، وربَّما مال الكثير إلى هؤلاء الدعاة لتلك الأضاحيك والترفيه والترويح عن النَّفس، وكيف يَحصل المراد وقد آذَن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالويل لمن أضحك الناس وهو كاذِبٌ؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ويلٌ للذي يُحدِّث فيكذب ليُضحك به القوم، ويلٌ له))[5].

رابعًا: لا يخلو هذا الأسلوب من هَمز أو لَمز أو غِيبة، أو سخرية أو استهزاء بأناس قد تكون دماؤهم وأعراضهم معصومة، وربما دخل فيه شيء من الكذب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول محذِّرًا من هذا المسلَك الخطير الذي اعتاده بعضُ المهرِّجين: ((إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة، لا يريد بها بأسًا، يَهوي بها سبعين خريفًا في النار))[6].

هذا ما تيسَّر باختصار، وإلَّا فالمسألة ذات شعب وشجون، والمقام بهما يطول، والحمد لله في الأولى والآخرة.


[1] أدب الدنيا والدين ص (309).

[2] الأذكار ص (326).

[3] تفسير ابن كثير (7/ 270).

[4] أخرجه الطبراني وابن ماجه وغيرهما، وقال الألباني: حسن؛ (الصحيحة) (506، 930).

[5] أخرجه الترمذي من حديث معاوية بن حيدة القشيري، وصححه الألباني، برقم (2315).

[6] أخرجه الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة (15/ 107)، وصححه أحمد شاكر.

كتبه شتا محمد

لا يوجد تعليقات حتي الآن

اترك تعليق